التفاوض أم التصعيد.. خيارات إيران في مواجهة الأزمات الداخلية والضغوط الأمريكية

التفاوض أم التصعيد.. خيارات إيران في مواجهة الأزمات الداخلية والضغوط الأمريكية
علم دولة إيران - أرشيف

تواجه إيران تصاعدًا في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مع تحذيرات رسمية من انقطاعات محتملة للكهرباء والمياه، إلى جانب تزايد معدلات الفقر والانهيار المستمر للعملة المحلية.

 تأتي هذه الأزمات في ظل ضغوط أمريكية متزايدة تحاصر نظام الرئيس مسعود بزشكيان، خصوصًا بعد إلغاء واشنطن إعفاءات كانت تسمح للعراق باستيراد الغاز من إيران، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة حول مستقبل النظام.

ويرى خبراء في الشأن الإيراني، تحدثوا لـ"جسور بوست"، أن الأوضاع في إيران باتت مهيأة لانفجار شعبي جديد، في ظل تصاعد الضغوط الاقتصادية، متوقعين أن يسعى النظام الإيراني إلى كسب الوقت عبر الدخول في مفاوضات مع واشنطن، في محاولة لتفادي التداعيات الخطِرة للأزمات الاقتصادية التي تتفاقم يومًا بعد يوم.

ويعاني الاقتصاد الإيراني منذ عام 2018، عندما قرر الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، وإعادة فرض مئات العقوبات ضمن سياسة "الضغط الأقصى".

وردًا على ذلك، كثفت طهران أنشطتها النووية، ورفعت معدلات تخصيب اليورانيوم إلى مستويات قريبة من الاستخدام العسكري، كما وسّعت دعمها العسكري لحلفائها في المنطقة. وسط هذه الأزمات، تولى بزشكيان الرئاسة، مؤكدًا انفتاحه على استئناف المفاوضات مع الغرب.

أزمات طاحنة

حذّر رئيس مجلس إدارة نقابة محطات توليد الكهرباء الإيرانية، علي نيكبخت، من أن العجز في الكهرباء سيصل هذا العام إلى 25 ألف ميغاواط على الأقل، ما يعني أن وزارة الطاقة لن تتمكن من توفير ثلث احتياجات البلاد من الكهرباء. وأرجع نيكبخت الأزمة إلى نقص السيولة، الذي يعوق عمليات صيانة وتحديث محطات توليد الطاقة.

وفي السياق، أعلن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن البلاد تعاني أزمة مياه حادة، محذرًا من انقطاعات محتملة للمياه في طهران ومدن أخرى خلال المستقبل القريب.

وأكد محمد جوانبخت، نائب وزير الطاقة لشؤون المياه، أن مخزون المياه خلف السدود الإيرانية وصل إلى مستويات حرجة، ما سيؤدي إلى تقنين المياه مبكرًا هذا العام، حتى قبل بدء فصل الصيف.

وأشار جوانبخت إلى أن السدود الرئيسية التي تزود طهران بالمياه، مثل "لار"، "ليتان"، "ماملو"، و"كرج"، تعاني انخفاضًا غير مسبوق في مستويات المياه. على سبيل المثال، سد "كرج" ممتلئ بنسبة 7% فقط، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ تشغيله، في حين لا تتجاوز نسبة امتلاء سد "لار" 1% فقط.

وتمتد الأزمة إلى معاناة الإيرانيين من تدني الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة، ووفقًا لوكالة أنباء "إيلنا" المعنية بالشؤون العمالية، فإن الحد الأدنى اللازم لتغطية نفقات معيشة أسرة عاملة في إيران يقدر بنحو 35 مليونًا و857 ألف تومان (نحو 400 دولار)، في حين لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور 7 ملايين و400 ألف تومان (نحو 85 دولارًا)، وهو ما يغطي نفقات 9.12 أيام فقط من الشهر.

وحذرت تنظيمات عمالية مستقلة، في بيان مشترك، من أن الأجور المتدنية أصبحت "أزمة لا تحتمل"، في ظل اتساع رقعة الفقر والاحتجاجات العمالية، التي تشمل إضرابات المعلمين والممرضين والعمال في مناطق عدة داخل البلاد.

في المقابل، رفض وزير العمل الإيراني، أحمد ميدري، مقترح زيادة الأجور مرتين سنويًا، بحجة عدم توافقه مع هيكل منظمة الضمان الاجتماعي. وأعلن أن الحد الأدنى للأجور سيرتفع العام المقبل بمعدل 30% كحد أقصى، وهو ما يقل كثيرًا عن مطالب العمال الذين يطالبون بزيادة 70%.

من جانبها، قالت سمية غولبور، رئيسة جمعية النقابات العمالية، إن القوة الشرائية للعمال انخفضت بنسبة 190% خلال الـ13 عامًا الماضية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر بشكل غير مسبوق.

وبعد ساعات من تصريحات المرشد الإيراني علي خامنئي، التي أكد فيها أن "ردّه على ترامب ما يزال سلبيًا"، شهدت الأسواق الإيرانية اضطرابات جديدة، إذ ارتفع سعر صرف الدولار الأمريكي من 91,850 إلى 93,200 تومان، فيما تراجعت بورصة طهران بأكثر من 34 ألف نقطة، ليستقر المؤشر العام عند 2.7 مليون نقطة.

وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد كشف أنه أرسل مقترحًا للمسؤولين الإيرانيين بشأن إجراء مفاوضات حول البرنامج النووي، مهددًا بأن "الخيار الثاني هو المواجهة العسكرية" في حال رفضت طهران الدخول في محادثات.

احتقان شعبي

وتستمر موجات الغلاء في مختلف القطاعات الإيرانية، حيث أعلن مجلس مدينة طهران عن زيادة متوقعة في أجور سيارات الأجرة بنسبة 37% لعام 2025، والتي سيتم تطبيقها اعتبارًا من بداية مايو المقبل.

في السياق ذاته، كشف رضا كنكري، رئيس اتحاد تجار المواد الغذائية، أن أسعار السلع الأساسية مثل: الشاي، والحبوب، والأرز، شهدت ارتفاعًا بنسبة 100% هذا العام، ما أدى إلى انخفاض مبيعات المواد الغذائية بنسبة 35%، حيث اضطر المواطنون إلى تقليص نفقاتهم لضبط ميزان دخلهم وإنفاقهم، وفقًا لما نقلته إيران إنترناشيونال، المنصة المعارضة للنظام الإيراني.

ومع اقتراب عيد النوروز، الذي يصادف 20 مارس الجاري، تتزايد شكاوى المواطنين من الركود الاقتصادي الحاد. ووفقًا لمقطع فيديو أرسله مواطن إيراني إلى "إيران إنترناشيونال"، قال فيه: "لدي أكثر من ملياري تومان من الشيكات المرتجعة. أفضل أن أضحي بحياتي من أجل ثورة تطيح بالملالي بدلًا من أن أسجن بعد العيد بسبب الشيكات المرتجعة".

وفي مقطع آخر، وثّق مواطن من سوق الفواكه والخضراوات الكبير في طهران الوضع الاقتصادي المتدهور، واصفًا المشهد عشية العيد بأنه "كارثة كبيرة".

وفي مؤشر نادر على اعتراف السلطات الإيرانية بالأزمة، أقرّ غلام حسين محسني إيجه إي، رئيس السلطة القضائية، بأن الوضع الاقتصادي في إيران "سيئ للغاية"، محذرًا من أن هذه الظروف قد تؤدي إلى "مشكلات أمنية في البلاد".

وأعلن ولي الله بياتي، المتحدث باسم لجنة الشؤون الداخلية في البرلمان الإيراني، في فبراير الماضي عن الموافقة على حظر تنظيم التجمعات والمسيرات في "الأماكن الحساسة والأمنية"، في محاولة واضحة لكبح أي احتجاجات محتملة.

ومنذ تولي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية في 20 يناير الماضي، استؤنفت سياسة "الضغط الأقصى" ضد إيران، وفي هذا السياق، صرّح محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان الإيراني، في مارس الجاري: "تصرفات الرئيس الأمريكي مع الدول الأخرى تُظهر بوضوح أن هذه التصريحات مجرد خداع للتفاوض بهدف فرض شروطها ونزع سلاح إيران."

وفي خطوة تصعيدية، أعلنت الولايات المتحدة إنهاء الإعفاء الممنوح للعراق، الذي كان يسمح له باستيراد الكهرباء من إيران، وذلك في إطار تصعيد الضغوط على طهران. وذكرت وزارة الخارجية الأمريكية، يوم الأحد، أن قرار عدم تجديد الإعفاء جاء لضمان "عدم السماح لإيران بأي درجة من الانفراج الاقتصادي أو المالي".

ويعتمد العراق على إيران في تأمين ثلث حاجته الاستهلاكية من الغاز والكهرباء، نظرًا لعدم قدرته على تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، وهو ما كان يمثل مصدرًا مهمًا للعائدات الاقتصادية لطهران.

ردود غاضبة

وفي رد فعل غاضب، نقلت وكالة "رويترز" عن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قوله: "من غير المقبول أن تصدر الولايات المتحدة الأوامر والتهديدات. لن أتفاوض معك يا ترامب. افعل ما تريد".

ومنذ 2019، وبعد عام من انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني الموقع في 2015، كثفت طهران أنشطتها النووية بشكل متسارع، في محاولة لمواجهة العقوبات الأمريكية التي شلّت اقتصادها.

وتصف منى السيلاوي، الباحثة في الشأن الإيراني، الوضع في إيران بأنه "كارثي"، مشيرة إلى أن النظام الإيراني يواجه أزمات متعددة، في حين يعاني المواطنون تبعات سوء الإدارة الحكومية.

وأوضحت السيلاوي، في تصريح خاص لـ"جسور بوست"، أن أزمة المياه ليست أزمة جديدة، بل مستمرة بسبب سوء إدارة الموارد المائية من قبل الحكومة، التي تستخدمها أداةَ ضغط على المجتمعات المحلية، فضلًا عن بناء سدود أثرت سلبًا في توزيع المياه، وأدت إلى إهدار كميات كبيرة، خاصة من مياه الأمطار.

أما بالنسبة لأزمة الكهرباء، فترى السيلاوي أن "النظام يسوغ لذلك بأعذار غير مقبولة"، مشيرة إلى أن الإنفاق الهائل على مشروعات الطاقة النووية لم يسهم في حل المشكلة، بل زادها تعقيدًا.

وأكدت أن نقص الكهرباء ينعكس مباشرة على الإنتاج، ويؤدي إلى تضرر العديد من القطاعات، مثل قطاع الدواجن، ما يفاقم الأزمات المعيشية من خلال ارتفاع الأسعار وزيادة الضغط على الشارع الإيراني.

الضغط الأقصى

ويرى مراقبون أن النظام الإيراني يسعى إلى كسب الوقت لتجنب انتفاضة شعبية قد توازي في حجمها ما حدث في سوريا بعد سنوات من القمع، وسط تشكيك في إمكانية إجراء مفاوضات حقيقية بين طهران وواشنطن، خاصة في ظل خطابات المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الرافضة للحوار مع الولايات المتحدة.

وترى المحللة السياسية منى السيلاوي أن المعارضة الإيرانية ما تزال غير قادرة على تشكيل جبهة موحدة ضد النظام، ما يجعل فرصة التغيير السياسي مرهونة بمزيد من الوحدة الداخلية ورفض القمع المستمر.

ومن جانبه، يرى المحلل السياسي العراقي - الإيراني حسين السبعاوي، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن تصريحات بزشكيان وخامنئي لا تعدو كونها خطابات دعائية لا تعكس الواقع الفعلي، مشيرًا إلى أن النظام الإيراني يتميز ببراغماتية عالية ونَفَس تفاوضي طويل.

وأوضح أن الضغوط الأمريكية تهدف إلى منع إيران من امتلاك قدرات نووية أو تعزيز نفوذها الإقليمي، وهو ما يتفق عليه المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول العربية.

واستعرض السبعاوي التجربة الإيرانية في التعامل مع سياسة "الضغط الأقصى" التي انتهجتها إدارة دونالد ترامب خلال ولايته الأولى، حيث تمكنت طهران من المناورة وتفادي الانهيار، في حين أنها استمرت في تطوير برنامجها النووي.

وفيما يتعلق بقرار الولايات المتحدة إنهاء الإعفاءات الممنوحة للعراق لاستيراد الكهرباء والغاز من إيران، أشار السبعاوي إلى أن لهذه الخطوة تأثيرات اقتصادية بلا شك، لكنها لن تشل طهران تمامًا، مؤكدًا أن القرار يمثل رسالة واضحة لتقليص النفوذ الإيراني في العراق، حيث تسيطر طهران على قطاعات حيوية داخل البلاد.

وتوقع أن تستمر أزمات المياه والكهرباء في إيران، مشيرًا إلى أن أزمة المياه تعود إلى عوامل تاريخية، منها غياب الأنهار الرئيسية داخل البلاد، بالإضافة إلى عدم قدرة إيران على حل مشكلة الطاقة مع دول الجوار بسبب العقوبات الأمريكية.

بين التفاوض والتصعيد

ويرى السبعاوي أن طهران ستسعى للدخول في مفاوضات مع واشنطن عاجلًا أم آجلًا، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء عرب مثل سلطنة عمان، وذلك لتجنب تصاعد الأزمات الداخلية والاحتقان الشعبي.

وشدد على أن الخطاب الرسمي الإيراني لا يعكس بالضرورة حقيقة ما يجري خلف الأبواب المغلقة، مشيرًا إلى أن النظام الإيراني كثيرًا ما يعلن مواقف متشددة، لكنه يتبنى نهجًا أكثر مرونة في الغرف المغلقة.

وأكد السبعاوي أن الولايات المتحدة لم تفرض -حتى الآن- أقصى درجات الضغط على طهران، لكنه توقع أن تتصاعد الضغوط الأمريكية في ظل تراجع النفوذ الإيراني إقليميًا، خاصة بعد فقدان الحليف السوري بشار الأسد.

وأشار إلى أن النظام الإيراني يواجه عزلة دولية متزايدة، معتبرًا أن أي نظام سياسي يفقد غطاءه الدولي يصبح عرضة للانهيار، وهو ما ينطبق على طهران، التي طالما اعتمدت على تأجيج النزاعات الإقليمية للحفاظ على نفوذها.

وبحسب السبعاوي، فإن تفاقم الأزمات الاقتصادية سيؤدي إلى اندلاع احتجاجات جديدة في إيران، إلا أنه شدد على أن أي تحرك شعبي واسع النطاق سيحتاج إلى دعم دولي لضمان تحقيق نتائج ملموسة.

وأوضح أن الخلافات العميقة داخل المؤسسات الأمنية الإيرانية، وخاصة بين الحرس الثوري والقوات الأمنية الأخرى، قد تفتح المجال لاضطرابات داخلية خطِرة، ما يزيد من احتمال تصدّع النظام من الداخل.

في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، وركود الأسواق، والتضييق الأمني، وتصاعد الضغوط الدولية، يبدو أن النظام الإيراني يواجه تحديات غير مسبوقة، فإما أن يرضخ للضغوط ويعود إلى طاولة المفاوضات، أو أن يواجه احتجاجات واسعة قد تعيد سيناريوهات الانتفاضات الشعبية السابقة، وسط حالة متزايدة من الغضب الشعبي وانعدام الثقة في قدرته على إدارة الأزمات.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية